Image

الدكتور محيي الدين عميمور يكتب “للجزائرالآن”: وقفة جديدة أمام أحداث قديمة… نقرأ الماضي لنفهم الحاضر ونستعد للمستقبل

الدكتور محيي الدين عميمور يكتب “للجزائرالآن”: وقفة جديدة أمام أحداث قديمة…  نقرأ الماضي لنفهم الحاضر ونستعد للمستقبل

الجزائر الآن _ تابعتُ ظهر أمس،الخميس، على قناة الـBBC فيلما وثائقيا عن رئيسة وزراء الكيان الصهيوني “غولدا مائير” التي خلدتها الفنانة السويدية “إنغريد برغمان ” في فيلم سينيمائي لا يختلف مضمونه عن فيلم القناة البريطانية، ووجدت نفسي أسترجع بعض أحداث حرب أكتوبر 1973 التي تناولها الفيلم الوثائقي بعد وفاة هنري كيسنغر، اللاعب الرئيسي في أحداث المنطقة العربية، وهو خلفية هذه الوقفة التي يوضحها عنوان الحديث.

فقد روى أحد مساعدي غولدا أن أكبر همومها خلال الأيام الأولى من حرب أكتوبر هو أن تتمكن القوات الإسرائيلية من اجتياز قناة السويس نحو الغرب، وبالطبع بعد أن يتغلب وزير الدفاع “موشي دايان” على وضعية الانهيار التي أصيب بها منذ السادس من أكتوبر.

وللتذكير، كان الهجوم المصري السوري منسقا بدرجة عالية من الكفاءة، ونجحت القوات المصرية بقيادتها المتميزة في تحقيق مفاجأة إستراتيجية وتكتيكية لم تكن في تقديرات إسرائيل، برغم أنها تلقت تحذيرا بأن هناك حربا في الأفق، أولا من ملك عربي، وثانيا يوم 5 أكتوبر من عميلٍ، عربي أيضا.

ويُروَى عن “موشي دايان” قوله مساء 6 أكتوبر: “إنني أشعر بهمّ ثقيل على قلبي (..) المصريون حققوا مكاسب قوية، ونحن عانينا من ضربة ثقيلة، لقد عبروا قناة السويس وأنشأوا عليها جسورا للعبور تحركت عليها المدرعات والمشاة والأسلحة المضادة للدبابات”.

في نفس الوقت أخذ هنري كيسنجر يتحرك بسرعة ليُمسك بزمام الأمور بحيث يمنع بحث الأمر أمام الجمعية العامة، حيث تتجلى قوة العالم الثالث (..) وكان اعتقاده الراسخ أن إسرائيل سوف تصدّ الهجوم وتحوّله إلى هزيمة ساحقة، وزاد اقتناعه بموقفه إثر تلقيه رسالة السادات يوم 7 أكتوبر التي قال فيها أنه لا يعتزم توسيع رقعة القتال بالتوغل شرقا (نحو الممرات).

وواجهت إسرائيل في اليوم التالي موقفا شديد الخطورة على الجبهة السورية، فقد اندفع الجيش السوري فجر يوم 8 أكتوبر في هجوم مدرّع أدى تقريبا إلى انهيار الخطوط الإسرائيلية في الجولان، وجن جنون إسرائيل فحشدت كل طيرانها لوقف التقدم السوري، فقد طمأنتها رسالة السادات لكيسنجر، وبلغت الخسائر السورية في الدبابات نتيجة لذلك التركيز الجوي حوالي 400 دبابة، ومع ذلك تعترف لجنة “أغرانات” الإسرائيلية فيما بعد أن : “ذلك اليوم كان يوما اختلت فيه عوامل السيطرة والقيادة، وتبدّت فيه القراءة المغلوطة لمجرى القتال”.

وكانت تعليمات كيسنجر لمندوبه في نيويورك : “يجب ألا يصدر عن المجلس قرار بوقف إطلاق النار إلا عندما يسترجع الجيش الإسرائيلي المواقع التي كان يحتلها قبل بدء القتال، على أن تكون إسرائيل قد دمّرت ما يمكن تدميره من قوات ومُعدات الجيش المصري” (محمد حسنين هيكل – السلاح والسياسة – ص-384 ).

وهكذا تأكد أن الوطن العربي، ومصر وسوريا في المقدمة، كان يواجه إسرائيل وكيسنجر في وقت واحد، وكان الثاني أخطر وأشد وطأة، لأنه كان يعتمد على عدد من المعطيات المتعلقة بالجانب العربي، ومن بينها التحكم في رد الفعل الأردني، حيث بعث برسالة إلى الملك حسين يرجوه فيها أن : “يحافظ على مصداقيته كرجل دولة”، وواعداً بمساعدات أمريكية بعد الحرب، ويرد الملك حسين، وطبقا لرواية كيسنجر، بأنه : “سوف يمارس ضبط النفس طالما كان ذلك ممكنا”.

في هذا الوقت نفسه كان السوفييت يغلون من الغضب، ويقول السفير السوفيتي “فينوغرادوف” لهيكل، حسب ما أورده الكاتب الكبير : “إن خبراءنا جميعا لا يفهمون لماذا لم تتقدموا لاحتلال المضايق، الذي كان عنصرا في الخطة التي اتفقتم عليها مع السوريين، وهو بقدر ما يخفف عليهم الضغط الجوي يعطيكم مواقع دفاعية أفضل كثيرا من أي تحصينات تقيمونها لدعم رؤوس الجسور”.

بينما يقول جنرال سوفييتي حضر اللقاء وأمامه خارطة توضيحية بأن: “الاحتياطي الإسرائيلي الذي كان في المؤخرة خرج من مكامنه واشترك في معارك الدبابات الأخيرة وتكبد خسائر فادحة، ونتيجة لذلك فإن حجم القوات الإسرائيلية في المضايق وبالقرب منها قوات ضئيلة يمكن أن تكتسحها القوات المصرية في ساعة أو ساعتين، وتسيطر على أهم موقع إستراتيجي في سيناء”.

ويروي الفريق الغمَسي في مذكراته بعد ذلك أن 9 أكتوبر كان هو اليوم المقرر لتطوير الهجوم شرقا، لأن ترْك العدو بدون ضغط مستمر عليه ينقل المبادأة له، ولا يُنتظر أن تتخذ القوات الإسرائيلية مواقع دفاعية حتى نهاية الحرب بل ستحاول اختراق إحدى القطاعات بالجبهة وقد تصل بعض قواتها إلى خط القناة، ولا يتحقق منع العدو من القيام بهذا العمل إلا بتطوير الهجوم شرقا، وطبقا للخطة الأصلية، واستئناف الهجوم والتحام قواتنا مع العدوّ سيجعل فعالية الطيران الإسرائيلي أقل، لأنه سيحرص على عدم إصابة جنوده المشتبكين مع المصريين.

ثم يقول بعد ذل: ” خطة الحرب التي لا خلاف عليها عسكريا وسياسيا قد وُضعت للوصول إلى خط المضايق كهدف نهائي للحرب، وكان توقيت تطوير الهجوم من أهم عوامل نجاحه، وكلما كانت فترة الانتظار أقصر كان ذلك أفضل لنا”.

ويتابع الإسرائيليون الموقف بكل يقظة، ويقول الجنرال بارليف في اجتماع للقيادة العامة : بما أن “الجيش المصري لم يتقدم عندما فرغ من تعزيز مواقع الجيشين الثاني (في المقطع الشمالي شرق القناة) والثالث (في القسم الجنوبي) فإن هناك فرصة لالتقاط الأنفاس وحشد قوة كافية للهجوم بما يمكننا من دفعه إلى أية مواقع تتجاوز خطوط 1967، ويجب أن يكون التحرك سريعا لأن الضغوط سوف تتزايد في نيويورك لفرض وقف إطلاق النار”.

ويروي الكاتب إن مندوب الـCIA في القاهرة تسلّم يوم 10 أكتوبر رسالة من حافظ إسماعيل، كان أهم ما فيها أن “السادات يتمنى لو استطاع كيسنجر أن يقوم بزيارة للقاهرة لبحث مواضيع الساعة معه، ويتأكد الوهم الذي كان يعيشه الرئيس بتصوره أنه قادرٌ على احتواء اليهودي الذي يقود الديبلوماسية الأمريكية ويتولى مواجهة الوطن العربي لمصلحة إسرائيل، فرغم إشارات الخطر التي بدأت تتضح يوم 11 أكتوبر فإن الرئيس بدأ يركز أكثر على اتصالاته معه، وفي ظنه أن هذه يجب أن تستقطب جهده الرئيسي، ولعل ذلك خلفية مقولته فيما بعد : “إن 99 في المائة من مفاتيح الموقف في يد أمريكا”.

ويُحس وزير الخارجية محمود فوزي بخطورة ما يحدث فيتصل هاتفيا بالرئيس ليقول له : “بأنه وعلى ضوء ما وصله من معلومات، فإن إعلان الوقفة التعبوية زاد من قلقه (..) والموقف على الجبهة السورية يدعونا إلى مواصلة الضغط لا إلى التوقف (..) وهناك محاولة لتعطيل صدور قرار عن مجلس الأمن، وبطريقة يبدو أنها مرتبة”.

وفجأة يأمر السادات بالعودة إلى الخطة الأصلية والتقدم نحو المضايق بعد أن فات الوقت، وعندما حاول القادة الميدانيون مناقشة القائد العام قال وزير الدفاع إن القرار سياسي، ولكن قائد الجيش الثاني اللواء سعد مأمون يتصل بالفريق الشاذلي ملوّحاً باستقالته وقائلا أنه لا يستطيع تنفيذ التعليمات التي وصلته، ثم يتصل قائد الجيش الثالث اللواء عبد المنعم واصل هو الآخر بقائد الأركان مبديا معارضته الشديدة، ويصر إسماعيل على موقفه مؤكدا أن القيادة السياسية اتخذت القرار، وكل ما يستطيع عمله هو تأجيل الهجوم ليكون يوم 14 أكتوبر.

وطبقا لذلك كان على القوات المصرية أن تهاجم 900 دبابة معادية بقوة لا تزيد عن 400 دبابة، وفي المكان الذي اختاره العدوّ وتحت سيطرته الجوية وبعيدا عن حائط الصواريخ، كل ذلك بقرار سياسي يقول عنه الفريق الشاذلي بمرارة : هل كان هذا القرار نتيجة الجهل أو المقامرة أو الخيانة ؟، لقد نجح العدوّ في استدراج ألويتنا المهاجمة إلى مناطق قتال اختارها بعناية (..) لقد فقدنا في هذا اليوم الأسود 250 دبابة، وهو رقم يزيد عن مجموع خسائرنا في الأيام الثمانية الأولى للحرب

وسيظل دور كيسنجر في قرار تطوير الهجوم المتأخر من أكبر ألغاز الحرب، لأن ذلك كان سببا في الضربات الرهيبة التي تلقتها القوات المصرية برغم أدائها البطولي الرائع، وكانت سببا في حدوث ثغرة “الديفرسوار” التي كانت بداية إجهاض النتائج السياسية لحرب أكتوبر، وكان لقاء الكيلومتر 101 خطوة نحو كامب دافيد وأوسلو ووادي عربة..

فهل كان هنري كيسنجر هو من أوحى بما حدث، تسهيلا لما كانت غولدا مائير تريد تحقيق كما جاء في الفيلم الوثائقي البريطاني.

المقالة التالية
الأخبار المتعلقة
آخر الأخبار