مؤرخ فرنسي: “لا يمكن التوفيق بين ذاكرة الجلاد وذاكرة الضحية… والجزائر لم تعد إقليمًا فرنسيًا”

مؤرخ فرنسي: “لا يمكن التوفيق بين ذاكرة الجلاد وذاكرة الضحية… والجزائر لم تعد إقليمًا فرنسيًا”

الجزائرالٱن _ يرى المؤرخ الفرنسي آلان روشيو أنّ المجتمع الفرنسي يشهد صعودًا لافتًا لأفكار اليمين المتطرف، ويعبّر عن قلقه من حالة الإنكار المتعمدة التي تتبنّاها الدولة تجاه الجرائم الاستعمارية المرتكبة في الجزائر. وأوضح أن جزءًا من الشعب الفرنسي على دراية بتلك الفظائع، إلا أن هناك اليوم نوعًا من التغافل والحنين إلى الحقبة الاستعمارية من طرف السلطة، مشددًا على ضرورة تذكير وزير الداخلية الحالي برونو روتايو بأن الجزائر لم تعد منذ زمن من الأقاليم الفرنسية.

وفي حوار أدلى به لموقع “الجمعية الدولية لأصدقاء الثورة الجزائرية”، أشار روشيو إلى أن التنكّر لتاريخ الاستعمار الفرنسي بات من السمات الراسخة داخل أوساط اليمين المتطرف، وهو ما يمثل استمرارية لخطاب جون ماري لوبان في الماضي، ويظهر اليوم بوضوح حتى لدى قطاعات واسعة من اليمين التقليدي. فهناك، حسبه، رغبة ممنهجة في النسيان، بل وحتى في إنكار الجرائم التي ارتكبها الجيش الفرنسي خلال فترات الغزو والاستعمار.

ونوّه إلى أن هذا التوجّه ليس مقتصرًا على الأحزاب السياسية، بل تغذّيه أيضًا بعض وسائل الإعلام والدوائر السياسية التي حولت هذا الإنكار إلى مشروع دائم ومربح، يتغذى من الانقسام ويتربح من التلاعب بالذاكرة الجماعية.

شهادات من أرشيف الرعب: الغزو، المجازر والاختناقات

توقف روشيو عند مضمون كتابه “حرب الجزائر الأولى: تاريخ الغزو والمقاومة”، والذي يغطي العشرين سنة الأولى من الاحتلال الفرنسي، وهي فترة حاسمة تم خلالها اجتياح الجزائر بشكل منهجي. وسجل المؤرخ عدداً مهولاً من الغارات الدموية، وعمليات قطع رؤوس، وممارسات وحشية ارتكبها الجيش الفرنسي، مستندًا إلى وثائق رسمية وشهادات ضباط فرنسيين.

أوضح أن تلك المرحلة شهدت ما أطلق عليه “الكتائب الجهنمية”، والتي قادها جنرالات أمثال توماس روبرت بيجو، سانت أرنو، بيليسيي، ولاموريسيير. وقد شارك هؤلاء في تجارة الرقيق، وارتكبوا جرائم حرب شنيعة، بما فيها جرائم اغتصاب جماعي ممنهجة. وسرد تفاصيل مروعة حول قيام الجنود الفرنسيين باغتصاب نساء قرى بأكملها، وعندما كان رجال القرى يحتجون، كانت القوات الفرنسية تلجأ إلى تنفيذ مذابح انتقامية جماعية.

وأضاف أن هذه الأفعال ليست مجرد روايات شفوية، بل موثقة في رسائل ومذكرات ضباط فرنسيين، وعلى رأسهم سانت أرنو، الذي كتب بوصف لافت عن حرق القرى وفرار أهلها، وكأنها مشاهد انتصار لا جرائم إبادة.

ومن أبرز ما جاء في توثيقه، جرائم “الاختناق بالدخان”، حيث أشار إلى ثلاث حالات موثقة في الأرشيف، أشهرها مجزرة الظهرة سنة 1845، حين أمر الجنرال بيليسيي، بناء على توجيه من بيجو، بخنق عشرات الأشخاص داخل المغارات قائلًا: “اخنقهم كما تخنق الثعالب”.

وعن المحاولات التي قام بها الرئيس إيمانويل ماكرون لتحريك ملف الذاكرة، على غرار تعيين المؤرخ بنجامين ستورا، والاعتراف باغتيال شخصيات مثل موريس أودان وعلي بومنجل، قال روشيو إنه لا يحبذ تعبير “المصالحة بين الذاكرات”. فبالنسبة له، لا يمكن التوفيق بين ذاكرة الضحايا وذاكرة الجلادين، مشيرًا إلى أن 122 مناضلاً جزائريًا أُعدموا بالمقصلة خلال الثورة، وأن التعذيب كان ممارسة ممنهجة في ما يسمى بـ”أشغال الغاب” أو “جمبري بيجار”.

وأضاف أن ما عاشته الجزائر لم يكن مجرد استعمار إداري، بل احتلال دموي تسبب في مآسٍ إنسانية لا يمكن طيّها بسهولة، مشددًا على ضرورة الاعتراف الكامل بتلك الجرائم دون مواربة أو تزييف.

على روتايو أن يستقيل ولن يجد من يأسف عليه

علّق روشيو أيضًا على واقعة توقيف الصحافي الفرنسي جون ميشال أباتي من إذاعة RTL بعد أن تحدّث عن جرائم الاستعمار، واعتبر أن ما حدث يعكس النفاق السائد في المشهد الإعلامي الفرنسي. ففي حين تُمنح منابر واسعة لقنوات مثل CNEWS وصحف مثل “فيغارو” و”Valeurs actuelles” لنشر أكاذيب تاريخية بشكل متواصل، يتم إسكات الأصوات التي تحاول كشف الحقائق. وأشاد بموقف أباتي الذي قال بعد توقيفه: “إذا منعتموني من الكلام، سأرحل”.

وانتقد روشيو بشدة برونو روتايو، واصفًا إياه بشخص خرج من الظل ليعتلي منصباً وزارياً، ثم شرع في توجيه السياسة الخارجية لفرنسا بشكل عدائي تجاه الجزائر، متناسياً أنه وزير داخلية، لا خارجية. وأضاف: “من المفترض أن يهتم بالأمن الداخلي لا أن ينصّب نفسه مسؤولاً عن العلاقات الدولية. وإذا كان يعتبر أن فرض سياسته تجاه الجزائر شرط لبقائه في منصبه، فليستقِل، فلن يجد من يتحسّر على رحيله”.

وفي حديثه عن العلاقات الجزائرية الفرنسية، اعتبر روشيو أن البلدين محكومان بالتفاهم رغم كل شيء، بسبب التاريخ المشترك والروابط الإنسانية العميقة. وقال: “لا يوجد بلد أقرب إلى فرنسا من الجزائر. فعدد كبير من الفرنسيين من أصول جزائرية، وهناك مئات الآلاف من حالات الزواج المختلط، وحركة دائمة من الأشخاص بين الضفتين لأسباب عائلية أو مهنية”.

واختتم حديثه بتحذير من صعود اليمين المتطرف في فرنسا، مشيرًا إلى أن تولي شخصية مثل جوردان بارديلا أو مارين لوبان للرئاسة سيكون بمثابة كارثة، ووصمة عار على جبين بلد يُفترض أنه مهد حقوق الإنسان. وأعرب عن أمله في أن يكون اليسار الفرنسي أكثر نضجًا، وألا يقع في فخ التشرذم الذي يخدم خصومه.

المقالة التالية
الأخبار المتعلقة
آخر الأخبار