Image

سفير الجزائر بسوريا يكتب “للجزائرالآن” في الذكرى التاسعة والستين لثورة أول نوفمبر الجزائرية المجيدة

سفير الجزائر بسوريا  يكتب “للجزائرالآن” في الذكرى التاسعة والستين لثورة أول نوفمبر الجزائرية المجيدة

الجزائرالآن _ نوفمبر جلّ جلالك فينا               ألست الذي بثّ فينا اليقين؟
هكذا يقول شاعر الثورة مفدي زكريا.
نعم، فبهذه الذكرى التي لا تُنسى والسّمة التي لا تُمحى، وهي الاحتفال بنوفمبر المجيد، التاريخ الذي يعززنا بقيمنا القتالية وبالتزامنا وأخوتنا وتضامننا الفعّال مع أنفُسنا ومع القضايا العادلة في جميع أنحاء العالم، فإنه من واجبنا أن نتذكر اللحظات المؤثرة التي عاشتها بلادنا طوال سنوات الجمر، سنوات الكبت والقمع.

إن ثورة نوفمبر في السنة الرابعة والخمسين، ذاك الحدث العظيم الذي سجّله التاريخ العالمي بأحرف أزلية في مخطوطاته، كان رمزاً للحركة المقدسة التي أعلنها جميع المؤرخين بكوكبنا “ثورة القرن العشرين الكُبرى”.

وهكذا، فقد حُظيت بدعم الشعب كُلّهُ، وبالأخص من طرف الناشطين والوطنيين الذين دعموها واحتضنوها وأشرفوا عليها وجاهدوا بكل طاقاتهم لإعادة تأهيل القيم التي أفسدها الاستعمار بَلْ الاستدمار ونظامه القمعي الاستبدادي.

وفي هذا السياق، فلا ننسى كل الأشقاء والأصدقاء الذين شاطرونا وساهموا بثورتنا سياسياً ومادياً وحتى عسكرياً، من دون أي شروط، مع التأكيد على دعمهم الثابت أمام العالم.

نعم، نوفمبر جلّ جلالك فينا      ألست الذي بثّ فينا اليقين؟
فمن ماسينيسا إلى ابن مهيدي إلى بوضياف مروراً بالأمير عبد القادر، كانت الرحلة طويلة عبر القرون، حيث لم يكن هناك ركودٌ أو راحة في تاريخنا.. فكل قرن وحقبة عرفتها الجزائر كان لها نصيبُها من الأحداث والرجال.
ومن خلال هذا المناخ، كان شعبنا مُعتاداً على القتال باستمرار.. ولقد فعل ذلك بدافع الضرورة لأنه اضطر للدفاع ضد حملات مُتعدّدة ولاحِقاً ضد الاستعمار القمعي للنظام الفرنسي.. فقام بذلك للحفاظ على وحدته وحماية هويته وتحقيق آماله في تكوين أمة حُرة في تطوير حضارتها المستقلة.

ولهذا السبب، فإن الحديث عن الأول من نوفمبر يُجبرنا على استحضار النضال العادل للشعب الجزائري في أوقات صعبة مؤلمة منذ ذلك اليوم الكارثي المشؤوم في 5 يوليو 1830 حتى حرب التحرير التي سمحت لنا باستعادة سيادتنا الوطنية.

ومن ثُمّ، فمن الضروري لفهم عدالة ثورتنا في هذه الذكرى التاسعة والستين لنوفمبر المجيد من سنة 1954، أن نقول بصدق، بل بفخرٍ، ما كان صعباً ومؤلماً كفاحنا منذ ما يُسمى ” حادثة المروحة” في 30 أفريل 1827.. وفي الحقيقة أنّ هذه ” الإيماءة المزعومة” التي لم تكن عند البعض ـ المؤرخين بالطبع ـ أكثر من مُشادة بسيطة بين الداي والقنصل الفرنسي، أصبحت ذريعة للحملة على الجزائر واستعمارها.. وهكذا، من خلال هذه الحُجّة شرّعت فرنسا حملتها إلى بلدنا، متناسية الإعلان عن ديونها للوصاية ـ العثمانية وقتذاك ـ وما هي أهدافها التوسعية التي كانت مُبرمجة في الزمن، وخاصة بعد تعرض شارل الخامس (   Charles Quint ) وإسبانيا لانهزامٍ ذريعٍ بشواطئ آغا بالجزائر العاصمة وأخيراً تولّي نابوليون بونابرت ( Napoléon Bonaparte ) على جزيرة مالطا عام 1782.
فمنذ ذاك الحين، بدأ نابوليون خُطتّه للغزو حتى 16 يونيو 1827 عندما تقرر الحصار على السواحل الجزائرية في وقت كان فيه الأسطول الجزائري بأكمله، تقريباً، في اليونان.. نعم، أرادت فرنسا الاستيلاء على مستعمرة أكثرُ ثراءً في القارة الإفريقية.
فالتاريخ يعيد نفسه، لأن “حادثة المروحة” التي كانت ذريعة للحملة الفرنسية على الجزائر كانت مثل كل الذرائع التي تعاقبت عبر الزمن للتدخل في شؤون الغير والتي ذهبت إلى أقصى حدّ لافتعال حروب أو على الأقل توترات خطرة. فلنذكر في ما يخص سورية والتدخل السافر لفرنسا أيام “نابوليون بونابرت” (  Napoléon Bonaparte ) الذي حَمّلَ جيشه على احتلال بلاد الشام، وفي باله الدفاع عن المسيحيين المضطهدين، آخذاً ذريعة مذبحة دمشق عام 1860، فهناكَ كان فيها الأمير عبد القادر واقفاً بالمرصاد لردّ الغزاة على أعقابهم، وذلك بعد لقائه الجنرال غورو Gourault  في قرية “قب الياس” Qob Elias  بضواحي شتورة Chtaura  ، بينما كانت 76 باخرة حربية ترسو في ميناءي بيروت وطرابلس، على استعداد للهجوم .
وهكذا، ونتيجة “ضربة المروحة”، كانت فعلاً الذريعة للإنزال الأول للقوات الفرنسية في سيدي فرج يوم 19 يونيو 1830، ثم الإنزال الثاني يوم 5 يوليو 1830 بأربعين ألف عسكري ليغسلوا، على قول قادتهم، إهانة الداي لقنصلهم، بل لفرنسا كلها.. هكذا كانت عقوبتهم لنا بطريقة وحشية.

ولكن المقاومة في مستوى العظمة أوقعت الغزاة بخسائر فادحة يعني بِخُمُسٍ فوقهم.. هذا وإذا كانت النتيجة بعد ذلك هي احتلال البلاد، فالسبب هو لأن فرنسا الاستعمارية استخدمت قوات ووسائل قمعية شرسة أكثر من أولئك المستعمرين الذين عرفتهم الجزائر قبلهم.

ومن هنا وعندما بلغت قواتها العسكرية أكثر من مئة ألف مسلح، مُدعمين بترسانة هي الأخرى قوية، كان الأمير عبد القادر، الذي بُويعَ لقيادة الجهاد ضد المحتل الفرنسي، يردُّ بكل حزم وعزم على الاعتداءات المتعددة، وليس التاريخ المزوّر هو الذي سَيُظهِرُ العكس أو يطمس القومية التي تألق بها بطلنا المِغوار، وذلك لأن أعداءه شهدوا فيه قوة الخلق والذكاء والسلطة التي كان يمارسها على جميع القبائل.. فالجنرالات كلوزال Clauzel وتريزال Trezel ودروي درلان Drouet d’Erlon وآخرون من السفاحين الجلادين والمشيران بيجو Bugeaud وسانت أرنو Saint Arnaud المشهوران بسلوكهما البغيض، كلهم أصابتهم الدهشة والإعجاب ببراعة الأمير عبد القادر وموهبته منذ بداية المقاومة حتى إعلانه إيقاف الحرب عندما اضطر للأسف بقرار كهذا أمام الهمجية الاستعمارية والغدر والمعاناة التي كان يُقاد الشعب من خلالها إلى إبادته مثل الزنوج الحمر بأمريكا.

وعن ذكر هؤلاء المتعطشين للدماء، فقد صرّح المارشال سنت أرنو الذي سوف يضعه التاريخ في مرتبة تيمورلنك Tamerlan، فقد اعترف بنفسه بوحشيته وهو يكتب إلى أخيه بفرنسا: ” اليوم سأحرق قرى ومحاصيل ابن سالم Bensalem وبلقاسم أوقاسي Oukaci ، فيمكنك أن تقول للكلٍّ في فرنسا إنّني دمّرت وأحرقت الكثير وإنهم مُحقون في مناداتي بالقوطي والواندالي Le Vandale”.
وطبعاً لا يذكر تاريخ فرنسا شيئاً عن هذه المذابح وعــن هذه الأعمال الشنيعة.. لكن شــعبنا يتذكر.

هذا وقد خُدِعَ الأمير عبد القادر من طرف الفرنسيين، والقصة طويلة وهي مُدونّة بكل التفاصيل التاريخية.. بِكتابي الذي صدر تحت عنوان:” الأمير عبد القادر وعائلته.. المرحلة النهائية في بلاد الشام”، لقد أُودِعَ السجن بقرارهم لمدة خمس سنوات، فاختار بعد إطلاق سراحه دمشق مُعتزله الأخير.. وهنا يتساءل سائل: هل ينبغي أن نقول إن الحرب قد انتهت بعد هجرته إلى بلاد الشام؟
بالتأكيد لا! لأن الجزائريين واصلوا وانتفضوا عام 1871 لتعميم القتال.. واليوم وأقولها للتاريخ إن المسؤول الأول عن هذه الانتفاضة الكبيرة كان ابن الأمير عبد القادر واسمه محي الدين الذي كان مدعوماً بالثائر ناصر بن شُهره. فكلاهما أقلعا من دمشق ودخلا القطر الجزائري في يناير حيث بَدَأا الحركة مع الوطنيين المحليين بالناحية الشرقية.
فهذا التطور على المستوى العسكري لم يفشل في إبراز الوعي السياسي لدى الشباب، بل على العكس من ذلك، فقد ساهم بإرساء بداية حركة وطنية لتحرير البلاد.

وهكذا، فالجزائر شهدت ابتداءً من عام 1871 أطول انتفاضة وأوسعها انتشاراً من بين جميع الانتفاضات التي وقعت قبل حرب التحرير عام 1954. وبالتالي، فإن هذه الحركة الخطرة في وجه فرنسا، أو في واقع الأمر، الحركة الوطنية المسلحة، كانت لم تمنح الاستعمار أي راحة.. لقد واصلت الجزائر إظهار معارضة وغضب شبابها وفلاحيها وعُمالها، بل كل طبقات شعبها الشجاع والشريف الفخور.

والحقيقة أن الشعب لم يستسلم أبداً لأنه استمر بنشاطه عبر الزمن.. وهكذا، فإنّهُ منذ عام 1871 وحتى إعلان ثورة نوفمبر المجيدة عام 1954 ومن خلال مختلف الحركات التي أعدتهّا، بما في ذلك الثورات والمعارك السياسية، أدرك الجزائريون أنه من الضروري المزيد من التجنيد والالتزام وخاصة بعد مجزرة 8 ماي 1945 البشعة التي راح ضحيتها خمسة وأربعون ألفاً من الرجال والنساء والأطفال الأبرياء، فقط لمطالبتهم بالاستقلال والحرية.. هذا كله وأعداؤنا المتعطشون للدماء كانوا من مؤسسي “عصبة الأمم” وهي منظمة دولية للحفاظ على السلام في أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى.
هل نفهم من ذلك أن عصبة الأمم وقتذاك كانت لا توّلي وجهها إلى القارة السمراء التي تقع فيها الجزائر؟ نعم! وحتى اليوم يعيش العالم سياسة الكيل بمكيالين وأحسن مثال هو ما يقع في سورية مقارنة بالإفلات من العقاب أو التواطؤ الذي يعتمده الكيان الصهيوني رغم كل انتهاكاته وجرائمه. نعم، فقد قرر صانِعو الحروب حصاراً إجرامياً على سورية الشقيقة، بلد الحضارة العريقة والعظيمة، بعد الأحداث الداخلية بدرعا، كما نَسيَ قتلة الأبرياء من قَتلُوا في جنين وقبلها كل المجازر التي تعرّض لها السُكان في كثير من المناطق منذ اغتصاب فلسطين.

واليوم أيضاً، أصبحت الأمم المتحدة بعيدة بعض الشيء عن اتخاذ قرارات صريحة، في وقت تتزايد فيه الضربات الوحشية ضد سكان غزة. ومن هنا نقول بصوت واحد في هذا الموقف الذي يُشبه التواطؤ أو الخوف من القِوى العُظمى بالعالم: أيُبرّأُ الجلاد وتُدانُ الضحية؟.

لِيعلموا جميعاً أن الخسائر في الأرواح في المستشفى الأهلى بغزة هي مأساة ينبغي أن تُرعِب كل إنسان، بينما تُذكِرُنا بجرائم الحرب العديدة المرتكبة ضد الفلسطينيين الأبرياء.. وها هي تستمِرُ هذه الجرائم مُتَسِمةً بالتعذيب والتجويع والإبادة.. فالعدوان الهمجي الأخير، الذي استعمل فيه الصهاينة الأسلحة المحظورة لاستهداف مراكز المواطنين، هو جريمة إنسانية عندما قصفوا الأبرياء في المنازل والمدارس والمستشفيات.. فعنْ أي جُرحٍ تبكي الأم الفلسطينية وكل أولادها استشهدوا بعد أن تعرضوا لضرباتٍ وحشية إجرامية وهم تحت الركام؟ وعن أي جرح تنعيه أمّ وزوجة وخطيبة الضابط الشاب في أكاديمية حمص بعد الهجوم الإجرامي الذي نَفّذتهُ التنظيمات الإرهابية المسلحة المدعومة بِصُناعِ الحروب والذي خلّفَ 112 قتيلاً بينهم 21 مدنياً و120 جريحاً على الأقل، وقد تّم تنفيذه باستخدام طائرات مسيّرة ومُحملّة بالمتفجرات حين استهدفت هذه الأكاديمية التي تُعتبر مفخرة ورمزاً للجنود الذين يشكلون عمودها الفقري.. إلاَّ أن الشعب السوري الشقيق، الذي يتمتع بقدرٍ كبيرٍ من الصمود أمام المحن الأليمة التي مرَّ ويمُّرُ بها، سيتمكن بفضل وحدتهِ من مواجهة التحديات الكبيرة التي فرضتها آفة الإرهاب والعقوبات اللاإنسانية الإجرامية للامبريالية الأمريكية.
وبالرجوع إلى نوفمبر، نقول بصريح العبارة إنه في الواقع بداية النهاية رغم أن فترة 1954- 1962 كانت صعبة ومؤلمة على شعبنا كله الذي سفك الكثير من الدماء ودفع ثمناً باهظاً لاستعادة سيادته الوطنية.

سوف لا نتحدث عن هذه الحرب لأنه بسبب شراستها والظلم الذي تعرض له الشعب الجزائري، لم تستطع الموسوعات احتواءها.. لهذا سنكتفي بوصم الجانب الإجرامي الذي سيطر على سلوكها من قِبَل الجيش الاستعماري والموقف العنصري للحكومات الفرنسية وخاصة اليسارية التي تعاقبت على السلطة طوال هذه الحرب.

فالمليون ونصف المليون شهيد تقول الأرقام، ناهيك عن الملايين من الجزائريين الآخرين الذين أبيدوا قبل هذا التاريخ.. أليس من المبالغة كما يقول بعض الفلاسفة الذين لم يعرفوا هذه الثورة إلاّ من بعيد أو في الصالونات المريحة للدبلوماسية الفرنسية؟ لا، ليست مبالغة، لأن هناك المزيد ولا نخجل إذا قلنا إن هناك ضعف ذلك العدد أو ثلاث مرات.. من يدري؟ نعم، من يدري، لأننا في هذا الوقت الذي نكتُب فيه هذه الجمل، نكتشف في بلدي أفجع مقابر جماعية مازالت تحكي ببلاغة وبطريقتها الخاصة عن تلك المذابح الجماعية التي ارتكبت في المناطق الريفية ضد السكان العزل الأبرياء.. فلم يكن الاستعمار يقدّر الخطر الذي كان يُسببه للإنسانية من خلال قمع شعب مثل شعبنا الذي كان يطالب فقط بحقوقه المشروعة.
لقد طرحت قضيتنا أمام العالم أجمع، بينما تزايدت الوحشية والانتقام ضد المدنيين وتكّثف العمل العسكري وأُنشِئت “المناطق المحظورة” و”مخيمات التجمع” والجنرالات الموجودون في الساحة استفادوا من الصلاحيات الخاصة.. نعم، لقد عرف العالم معاناة شعبنا المتعطش للحرية.

ولكن هل استطاع السادة الاستعماريون أن يُخفوا مجازر الأهالي عن وجه العالم حتى لو استنكروا ارتكابها؟ وهل يمكنهم إخفاء تلك المذبحة، والأسوأ من ذلك الإبادة الجماعية التي وقعت في شهر ماي 1959 عندما قتلوا ببرودة متناهية بالقنابل اليدوية في مغارة الكويف 112 جزائرياً، معظمهم من النساء والأطفال؟ هل يستطيعون إخفاء تلك الهمجية التي أبرزوها في التظاهرات السلمية في 11 ديسمبر 1960 حيث خرج الشباب خاليي الوفاض ليهتفوا برفض الاستعمار والاستغلال، فَسُحِقوا برصاصهم القاتل؟ فما كان لهم الوقت، لهؤلاء الشباب، لرفع رؤوسهم لتلاوة الشهادة الأخيرة.. لأن بنادق العدو كانت هناك، مصّوبة بوقاحة لحرمان أولئك الأطفال من براءتهم.

فقد كتبت في ذلك “جريدة لوموند” Le Monde : ” كان هناك 135 ألف عسكري في حالة حرب في مدينة الجزائر وحدها”.
فهل يُجبروننا على أن نسامحهم على ذلك القمع الوحشي الذي قاموا به في 17 أكتوبر 1961 بباريس Paris عندما تمّ الردّ على 80 ألف جزائري بهمجية لا مثيل لها.. فقط لأنّ ذنبَهم هو القيام بمسيرة هي الأخرى سلمية للاحتجاج أمام الشعب الفرنسي والرأي العام الدولي مبرزين سَخطهم ضد الاستعمار؟ وهل نخفي أن 200 جزائري في ذلك اليوم ” أغرقوهم بالرصاص” في نهر السين Seine وتمّ اعتقال وتعذيب 12 ألف شخص من الجالية الجزائرية؟
ثم التعذيب، تلك “الوسيلة القانونية”، على رأي الجلادين، “لانتزاع الحقائق” من أفواه الضحايا الأبرياء.. هل علينا أن ننساها أيضاً؟ لا أبدا، لأنه قد تمّ إضفاء الطابع المُؤسسي للتعذيب على أيدي الجنرالات الكبار في الجيش الفرنسي.

وهكذا ظلّت الجزائر المستعمرة لأكثر من قرن ونصف، ثابتة في نضالها حتى استقلالها في 1962.
وهنا نؤكد بقوة أن نوفمبر الذي نحتفل به كل عامٍ، كان بالنسبة لنا، بل للتاريخ، بداية النهاية.. نعم بداية النهاية لأنه بتجنيد والتزام الشعب والمجاهدين وبطولاتهم وتضحياتهم واستشهادهم بأرض الحرية وما كان يقابل ذلك من ردود فعلٍ بهيمية من طرف القوى المُضطِهدة التي دمرّت البلاد وأحرقت الأرض ومن فيها، مهددة شعبنا منذ نهب بلادنا.. تمكنّا من إنهاء فترة طويلة من المعاناة والذكريات السيئة تبقى، رغم كل ذلك، سمة لا تُمحى وذكرى لا تُنسى.
فهذا هو نوفمبر المجيد الذي أعطى للإنسانية إنسانيتها.

هذا وقد كتبت في البداية بأن نوفمبر الثورة والشعب الجزائري كانا مُدعّمين بالأشقاء والأصدقاء.. أفلا يجب بهذه المناسبة أن نُنوه بذلك الدعم وتلك المساعدة بل تلك المساعدات الفعالة في تلك الأوقات الصعبة للغاية والتي ما زال يقدرها الشعب الجزائري حق قدرها؟
نعم، لأن هذه اللفتات الوطنية النبيلة بقيت وستبقى راسخة في ذهن كلّ جزائري الذي لا ينسى تونس والمغرب، الداعمين الأساسيين لكفاحنا بمشاركتهما المادية والسياسية في كل الظروف.
وفي ما يخص تونس وما قدمته من تضحيات، فقد اختلطت دماؤها بدماء الأشقاء الجزائريين في قصف ساقية سيدي يوسف أثناء العملية العسكرية التي نفذها الجيش الفرنسي أثناء مطاردة الثوار الجزائريين، وتلك الجريمة الشنعاء وقعت في فبراير 1958، حيث سقط ضحيتها أكثر من 70 شخصاً و12 طفلاً من مدرسة ابتدائية وإصابة 148 من السكان.. وكم كانت كثيرة هذه العمليات التي سقط فيها العديد من الشهداء.. ولا ننسى بهذا العرض الشقيقتين مصر وليبيا في دعمهما غير المشروط واللتّين لم تكونا بعيدتين عن تلك الحركة التحريرية، بل كانتا مَعنيتين بها.
أمّا بالنسبة لأشقائنا السوريين، فقد التزموا من دون تهاون بثورتنا قبل اندلاعها في نوفمبر/ تشرين الثاني 1954، بوقت طويل، لأنهم كانوا حاضرين أيام الحركة الوطنية الجزائرية تحت إشراف أولاد وأحفاد الأمير عبد القادر وغيرهم من أبناء الجالية الذين عزموا على مواصلة كفاحه ضد الاستعمار الفرنسي.

ونتيجة لذلك، فقد وجدت ثورتنا نفسها مطمئنة للسير قُدُماً على طريق النصر، لأنّ الإنجاز الذي قام به إخواننا السوريون يسمح لنا بأن نقول إنّ هناك بالتأكيد العديد من الأحداث التي لا تقلّ أهمية، تمّت في دمشق وغيرها من مُدن الأراضي السورية خلال الثورة التحريرية.. ولكن بما أننا لم نستطع أن نوردها بالكامل في هذه المناسبة، فإنّ القليل الذي نُسلِط عليه الضوء يكشف بالفعل ويُظهِر إذا لزِمَ الأمر أنّ جزائريّ الشام ساهموا بشكل كبير إلى جانب إخوانهم السوريين في حرب التحرير الوطنية التي كانت تهُمّهم إلى أقصى حد.

وبالتالي، إذا كانت ثورتنا قد حُظيت بدعمٍ جيد في هذه المنطقة، فذلك لأنّ سورية، كما يعرف الجميع، كانت هي الأخرى مركزاً وبلد استقبال للجزائريين على مدى قرون، وكان المناخ مناسباً لجميع تظاهرات الدعم وإجراءات ملموسة لمساعدة ومؤازرة ثورتنا التحريرية.
وأخيراً، أقول بهذا الفصل إنه يُمكننا أن نَجزمَ بأنّهُ عندما كان مقرّ الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بالقاهرة وتونس، العاصمتين اللتين لعبتا بالطبع الدور الأبرز، كانت دمشق المكان المُفضل لأعضاء هذه الحكومة المؤقتة وللعديد من قادة جبهة التحرير الوطني الذين كانوا نشطين للغاية في أجواءٍ أخوية ومُحفِزة، لأن المساعدة في سورية كانت نزيهة وصادقة.
ومن هنا لا أُنهي مُشاركتي عن نوفمبر من دون العودة إلى سيدة عظيمة تركت آثاراً في هذا البلد الحضاري.. اسمها الدكتورة نجاح العطار التي كتبت ذات يوم بكل نظافة فكرها وحُبها للجزائر:
” وتسألون ما نحن وجزائركم وأميركم وبطلكم، سائلوا دمشق إذاً وقاسيون والغوطة، سائلوا تلك العُروة الوثقى بين بلدٍ إلى النضّالِ مُنتماهُ، وبين بلدٍ إلى البطولةِ مَأتاه ومَغداهُ، سائلوا سورية والجزائر كيف كانت اللحمة في العروبة والإسلام وأخوّة السلاح وقرابين الثورة هي الوحدة التي نسجتها من لحمٍ ودمٍ، يدا عبد القادر الجزائري ومن بعده استطالت واستطالت حتى أيامنا هذه.
أيها الكبير فينا، كِبرَ أوراس، أيها البطل بيننا بطولة وهران، نَم في الخالدين وفي الراضين المرضيين وتقبّل مِنّا انحناءة الإجلال..”. نجاح العطار… وزيرة الثقافة.
هذا هو نوفمبر الذي نحتفل به اليوم وبقلوبٍ متألمة، في حين تعيش الدول الشقيقة صعوبات جمّة وتعاني سورية من أخطر حِصار فُرِضَ عليها بشكل تعسفي ومن دون سبب، وإخواننا الفلسطينيون يُكابدون ويلات حرب من دون هوادة، ضد الكيان الصهيوني المُدعّم من طرف قوات البطش والظلم التي تريد السيطرة على الوضع في العالم.

المقالة التالية
الأخبار المتعلقة
آخر الأخبار